ليالي الأرق الطويلة، العيون باهتة، التعب المستمر، الأوجاع الناخرة للعظام، البكاء تضرعًا للعافية، الشَعر المتساقط في كل زاوية من المنزل، رائحة المستشفيات. هناك، لا صوت يعلو فوق صوت الألم. إن سألت أي مريض سرطان، عن تفاصيل يومياته، فلا شك أنك ستحظى بالإجابة نفسها وبتفاصيل متشابهة إلى حدّ كبير. أما إن سألته عن أكبر أمنياته فحتمًا، ستكون القضاء على “المرض اللعين” والشفاء منه، أو على الأقل تخدير الآلام الناجمة عنه. هذا بالضبط ما تمكن الدكتور جان الشيخ، الطبيب المُتخصص بسرطان الدم، أن يوفره بصورة معقولة، لمرضى اللوكيميا أو ما يُسمى بسرطان الدم – ابيضاض الدم، الذي يصيب الأنسجة بما في ذلك نخاع العظم والجهاز اللمفوي.
مرض مزمن؟
في لبنان، وفي خضم الأزمة الاقتصادية التي طالت كافة طبقات المجتمع، وأرخت بثقلها على القطاع الصحي وعلى المرضى الذين فقدوا آخر ما تبقى لهم من ضمانات، نتيجة “الفاتورة” المدولرة في المستشفيات الخاصة، والتدهور الحاصل داخل المستشفيات الحكومية، وقع المرضى وتحديدًا منهم مرضى السرطان، في سلسلة من العجز عن استكمال علاجاتهم وتلقي جرعاتهم في الوقت المناسب من جهة، وازدادت أعدادهم نتيجة التأخر في الكشف المُبكر عن المرض (أسعار التحاليل الطبية باهظة)، من جهةٍ أخرى. هكذا استهل الدكتور جان الشيخ، حديثه لـ”المدن”، مُعتبرًا أن مرض السرطان هو من الأمراض المنتشرة في لبنان وبصورة كثيفة، لعدّة عوامل أبرزها التلوث. لكنه وفي المقابل، ليس مرضًا مستعصيًا ونادر الشفاء كما يروج له البعض، بل بات من الممكن التعامل معه كمرض يُمكن العيش معه أو الشفاء منه.
ويرى الدكتور الشيخ أن هذا الأمر بات مُحققًا بفضل الجهود الجماعية في الجامعة الأميركية والمستشفى الخاص بها. لذا صار ممكنًا علاج المرضى وخصوصًا المصابين باللوكيميا، بواسطة الأدوية المناعية الموجهة والدقيقة. بما معناه، التخلي عن العلاج الكيميائي الذي يسبب تساقط الشعر والأوجاع الحادة لجسم المريض، سيما أنه يقف على عقبة أساسية واحدة، وهي إمكانية توافر العلاج وحصول جميع المرضى عليه. مُشبهًا حال المرضى بالتالي: “إذا كان المريض بحاجة للماء وقلت له علاجك بالماء، وهو لا يستطيع شراء الماء، فماذا سيفعل بهذه الحالة؟”. فيما أشار إلى إن غالبية مرضى اللوكيميا هم من فئة الأطفال والشباب، أما حالات العجزة فهي أقلّ بنسبة لا يُستهان به مقارنة بالفئة الأولى.
مسار العلاج
وفي معرض حديثه عن رحلة الشفاء والعلاج من المرض، يشرح الدكتور الشيخ قائلًا: “في السابق، كان مسار الشفاء، يبدأ تلقائيًا بالعلاج الكيميائي، لمدة 3 أو 4 سنوات، ليعود ويقوم جزء من المرضى بعملية تغيير الدم، وفي كل الحالات كانت نسبة الشفاء لا تتعدى 50 بالمئة، وإن عاد المرض في عدد من الحالات فلا تتعدى نسبة الشفاء 20 بالمئة”. ويكمل قائلًا: “أما اليوم، فإن الأبحاث الأخيرة التي صدرت، أثبتت أن العلاج الدوائي المُعتمد في السنوات الثلاث الأخيرة للمرضى الذين يعانون من المرض أكثر من مرة بعد شفائهم منه، هو علاج مُوجّه، يحفز الخلايا المناعية، لتحارب الخلايا السرطانيّة الخاصة باللوكيميا. وهو نوع من “الهندسة الجينية المستحدثة”، وبذلك استبدلنا العلاج الكيميائي بهذا العلاج المُوجه المعتمد على تقوية الخلايا وتدعيم مناعتها، بصورة تضمن العلاج من السرطان؛ أي أن الأدوية تضمن نسبة شفاء 90 بالمئة تقريبًا، من دون أي جرعة كيميائية، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف الآلام عن جسم المريض”.
إنجازات طبية
“نتائج رائعة وأدوية فعّالة”، هكذا يفصّل العلاج الذي يقدّمه لمرضاه، الذي اعتبره نافذة أمل كبيرة لمرضى السرطان، خصوصًا بعد تحول “الخبيث” من مرض مميت إلى مرض مزمن يمكن التعايش معه.
أما بما يتعلق بالأبحاث المتوقع إنجازها في عام 2024، فتتمحور وفقًا لكلامه حول معرفة الخلل الجيني المسبب لمرض السرطان، أي معرفة أسباب المرض ومن ثم العمل على تجنّبه. ففي عام 2023 تمكن من كسر حاجز المناعة وحاجز التطابق، أي أثبت طبيًا بإمكانية أي مريض مصاب بلوكيميا الدم أن يجد متبرعًا له من أفراد عائلته. وفي العام نفسه، نجحت أكثر من 100 عملية لزراعة نقي العظم بنسب مرتفعة لامست 89 بالمئة، وكان أهمها عملية أجريت لمسن في الثمانين من عمره، وهي بمثابة إنجاز طبي يضاف إلى سجل الدكتور الشيخ.
في الواقع، من الطبيعي أن تنخفض نسب شفاء مرضى السرطان حين يعجز المريض عن تلقي علاجه المطلوب في الوقت اللازم، بسبب ظروفه الاقتصادية المتردية، ولا مبالغة بالقول بإن تأجيل العلاج له تداعيات سلبية كثيرة. لذلك، يشدد الدكتور الشيخ على أهمية الفحوص الدورية لكل شخص، وعلى ضرورة الحصول على لقاح كورونا من أجل الحفاظ على المناعة القوية.
إذن، يبدو أن بعضًا من الأمل بات ملموسًا. إذ أن السرطان المعروف عنه بالمرض الخبيث واللعين، قد صار ممكنًا التغلب عليه، وكل ذلك بفضل جهود وأبحاث الفريق الطبي والتمريضي والباحثين والطلاب في المركز الطبي في الجامعة الأميركية ببيروت، ومن ضمنهم الدكتور جان الشيخ، المتفاني في عمله الإنساني بالمرتبة الاولى، لإزالة الآلام عن مرضى السرطان.